
القناة، أول شبكة لإمدادات المياه
لطالما كان الماء دائماً، وعلى مر العصور، مٌعادلاً لاستمرار حياة البشر على سطح الأرض. ومع مرور الزمن ودخول الصناعة إلى حياة الإنسان، والاستخدام المفرط للماء، تغير وضع هذا العنصر الحيوي بل وحتى بدأ نقصه على سطح الأرض. هذا النقص كان أكثر وضوحاً في المناطق الحارة والجافة من الأرض مقارنةً بالمناطق الأخرى، مما دفع سكان هذه المناطق إلى الابتكار لإيجاد طرق للاستفادة من هذا المصدر الحيوي الذي أصبح نادراً. إحدى هذه المناطق هي إيران، والتي بسبب مناخها الحار والجاف في معظم مناطقها، واجهت "أزمة الماء". حاول الشعب الإيراني التغلُّب على هذه المشكلة من خلال إبداع نظام مائي فريد من نوعه، حلاً يُخفف من مشكلة نقص الماء في المناطق الصحراوية بشكل كبير. "قنات" هو اسم النظام الذي استطاع الإيرانيون تصديره للعالم بأسره ليصبح قيد الاستخدام العالمي. قنات أو (كاریز) هو نفق حُفر تحت الأرض لنقل الماء إلى سطح الأرض. تُسمى الينابيع الجوفية "الآبار"، والقنوات المحفورة في عمق الأرض تعمل في الواقع كقناة اتصال تربط بين سلسلة من الآبار، التي تنبع من " الآبار ". المكان الذي تصل فيه القناة إلى سطح الأرض ويخرج الماء يسمى "فوهة القناة" أو "رأس القناة". إن طريقة حفر قناة في إيران تكون بداية في حفر بئر غني بالمياه. ومن أجل نقل موارد المياه من البئر إلى سطح الأرض، كان يجب حفر قنوات. ولتجنب الاختناق في الأنفاق الجوفية، كان يتم حفر القنوات والآبار بشكل عمودي للتهوية. تجدر الإشارة إلى أن جودة الأكسجين داخل الأنفاق يتم مراقبتها بواسطة لون شعلة المصباح "الزيتي". في حال تغير لون الشعلة، يترك العمال النفق لتجنب الاختناق بالغاز. في هذه الحالة، يتم حفر بئر عمودي لتفريغ الغاز. الآبار المحفورة يجب أن تكون مستقيمة، ولضمان ذلك، كانوا يستخدمون طريقة تدعى "راستي". في هذا العمل، كان يتم ربط قطعتين من الحجر تسمى "شاقول" إلى حبلين بطول ارتفاع البئر وإرسالها إلى عمق البئر. كان العامل يمسك بالجانب الأيسر من شاقول ويضع المصباح في نهاية السلسلة. يغلق العامل إحدى عينيه ويستخدم الأخرى للتحقق من أن "شاقول" والنور في خط مستقيم. لكن دقة المهندسين الإيرانيين لم تتوقف عند هذا الحد، بل كان عليهم قبل الحفر القيام بحسابات باستخدام مبادئ علم الهيدرولوجيا وقوة الجاذبية الأرضية، لضمان الحصول على أقصى خروج للماء من القنوات. أحد الأمور التي كانوا يركزون عليها هو حساب انحدار الأرض. انحدار الأرض يؤثر على طول كل "قناة"، بحيث أنه كلما كان الانحدار أقل، كانت القناة أطول، وكلما زاد الانحدار، قصرت القناة. العامل الثاني المهم بالنسبة للمهندسين الإيرانيين في حفر القنوات هو طول القناة، لأن طول سلسلة القنوات يؤثر على كمية الماء الناتج منها. يتغير طول القنوات وفقًا للظروف الطبيعية مثل انحدار الأرض وعمق "البئر". عامل آخر يأخذه الإيرانيون في الاعتبار عند حفر القنوات هو مستوى المياه الجوفية في المنطقة. كلما كان مستوى المياه الجوفية أقل، زاد عمق "البئر". عادةً ما يُبنى بجوار مخرج القناة بركة لتخزين ماء القناة للاستخدام عند الحاجة. من المثير للاهتمام أنه في بعض الأحيان، عندما يُستخدم ماء القنوات في الريّ، يتم تعكيره بالطين ليصبح أقل نفاذًا في التربة ويسير مسافة أطول. بفضل هذه الطريقة الإيرانية الذكية، يقل حجم فقدان الماء في القنوات. كما أن هناك أمر مهم جدًا بعد حفر القنوات في إيران و هو تنظيم ساعات الماء لكل قناة. بعد إنشاء القنوات، ولضمان العدالة بين الفلاحين وسكان القرى، كان يتم اختيار شخص لتوزيع حصص الماء بين المستخدمين. هذا الشخص يُسمى "ميرآب". كان "ميرآب" يستخدم ساعة مائية لتحديد كمية الحصص. تتألف الساعة المائية من وعاء صغير به ثقب في منتصفه، ويوجد على جدارها الداخلي علامات لتحديد الدرجات والقياسات. يتم وضع الوعاء في قدر كبير مملوء بالماء. عدد المرات التي يمتلئ فيها الوعاء ويغرق إلى قاع القدر يُحتسب كـ "فنجان" أو ما يُعادل "7 دقائق ونصف" في الوقت الحالي. بهذه الطريقة، كان الإيرانيون يوزعون الماء بدقة وعدالة. جانب آخر يجب الانتباه له هو صيانة القنوات؛ حيث يجب تنظيف القنوات كل عام في إيران. كل ربيع يقوم العاملون بتفتيش طول القناة لحل المشاكل التي قد تواجهها. بهذه الطريقة، يمكن للقناة توفير الماء لآلاف السنين. هناك قنوات في إيران عمرها أكثر من ألفي عام وما زالت قيد الاستخدام. مثال على ذلك هو قناة "قصبه گناباد" التي أُنشئت في عهد الأخمينيين (550-330 ق.م). تعدد استخدامات مياه القنوات في إيران تُستخدم مياه القنوات في إيران في العديد من التطبيقات. الاستعمال الأكبر لهذا الابتكار الإيراني هو في الزراعة، حيث تُستخدم لري حقول القمح والخضروات في السهول الحارة والجافة. بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم مياه القنوات في إيران لتبريد المباني. في المدن الصحراوية في إيران، تمر القنوات على بعد عدة أمتار تحت الأرض. في شوارع المدينة، تُبنى سلالم من سطح الأرض للوصول إلى القنوات، مما يتيح وصول الجميع إلى الماء. هذه المداخل تحت الأرض توفر أيضًا مساحات باردة وظليلة للمارة لحمايتهم من حر الصيف. في المنازل، تُبنى أبراج الرياح فوق القنوات. تُحرك أبراج الرياح الهواء، والهواء الذي يمر فوق مياه القنوات يبرد الغرف. من الفوائد الأخرى لهذه البنية الإيرانية: تقليل تبخر الماء، عدم الحاجة إلى طاقة خارجية، منع ملوحة التربة، الإدارة المستدامة لمصادر المياه، مكافحة التصحر، ومقاومة الكوارث الطبيعية. وفقًا للإحصائيات، تم تحديد حوالي 36,300 قناة في إيران. تُشاهد القنوات أيضًا في الدول التي كانت جزءًا من إيران أو لها صلة ثقافية بإيران، مثل بين النهرين خاصةً العراق وسوريا، باكستان وأفغانستان، غرب الصين، دول جنوب روسيا، الدول الفتية على سواحل الخليج، شمال أفريقيا، وجنوب أوروبا؛ ولكن عدد القنوات داخل إيران يفوق عددها في خارجها. في عام 2014، تم اكتشاف بقايا قنات بالقرب من سد سيمره، تعود إلى 3000 عام قبل الميلاد. كذلك، في عام 2003، تم اكتشاف قنات في منطقة بم يعود عمرها إلى أكثر من 2000 عام، وحُفرت في أواخر عهد الأخمينيين. تقع القنوات في إيران في السهول المجاورة للجبال. تُستخدم المياه الجوفية المتجمعة بجوار الجبال بواسطة القنوات لاستخراج المياه في السهول البعيدة. يمكن رؤية القنوات في جميع أنحاء إيران، لكن غالبية القنوات تتواجد في السهول التي يقل فيها هطول الأمطار السنوي عن 300 ملم. في الدورة الأربعين للجنة التراث العالمي لليونسكو، التي عُقدت في يوليو 2016 في إسطنبول، تم إدراج إحدى عشرة قناة إيرانية في قائمة التراث العالمي باعتبارها الأثر العشرين من إيران. تم إدراج هذه القنوات بناءً على معيارين من ستة معايير ثقافية تشمل الشهادة الفريدة أو الاستثنائية على تقليد ثقافي ومثال بارز على الهندسة المعمارية أو التكنولوجيا التي تظهر مرحلة مهمة في تاريخ البشرية. يحتوي ملف القنوات الإيرانية الإحدى عشرة، التي تتراوح أعمارها بين 2500 و200 عام، على تقنيات مختلفة. بعد مراجعة واعتماد خبراء اليونسكو، تم تسجيل هذه القنوات في قائمة التراث العالمي. القنوات التي تم تسجيلها هي فريدة ولا مثيل لها من حيث العمر، نوع العمارة، العمق، الطول، والخصائص الأخرى. وهذه هي القائمة للقنوات الـ 10 المسجلة في اليونسكو:
- قنات قصبه: (مدينة گناباد، محافظة خراسان رضوي) أقدم وأعمق قناة في إيران، يعود تاريخ حفرها إلى العصر الأخميني.
- قنات زارچ: (مدينة يزد، محافظة يزد) أطول قناة في إيران بطول 100 كيلومتر، يعود تاريخها إلى حوالي 2 إلى 3 آلاف سنة.
- قنات حسن آباد: (مدينة مهريز، محافظة يزد) يعود تاريخها إلى القرن الثامن الهجري (حوالي 700 سنة) وتقع في حديقة پهلوانپور، وتضم مطحنة ميرزا نصرالله.
- قنات مون: (مدينة اردستان، محافظة اصفهان) الوحيدة في العالم ذات الطبقتين، أُنشئت قبل حوالي 800 سنة.
- قنات بلده: (مدينة فردوس، محافظة خراسان الجنوبي) تعود إلى العصر الساساني وتروي مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في المنطقة.
- قنات وزوان: (مدينة وزوان، محافظة اصفهان) يعود تاريخها إلى حوالي 2500 إلى 3000 سنة.
- قنات مزدآباد: (مدينة ميمه، محافظة اصفهان) تحتوي على سدود تحت الأرض، وهي سمة مميزة لها هي وقنات وزوان أيضًا.
- قنات أكبر آباد وقاسم آباد: (مدينة بروات، مقاطعة بم، محافظة كرمان) هذه القناتان التوأماتان وفيرتا المياه، يعود تاريخهما إلى أكثر من قرن، وتوفران الماء للاستخدام الزراعي في المنطقة.
- قنات گوهرریز: (مدينة جوپار، محافظة كرمان) يعود تاريخ حفرها إلى حوالي 750 عامًا في عهد الصفوية.
- قنات إبراهيم آباد: (مدينة أراك، محافظة المركزية) تم حفر هذه القناة قبل 800 عام (القرن السادس والسابع الهجري).